سورة يس - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


قوله: {يس} قرأ الجمهور بسكون النون، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص، وقالون، وورش بإدغام النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون، وقرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم بكسرها، فالفتح على البناء، أو على أنه مفعول فعل مقدّر تقديره: اتل يس، والكسر على البناء أيضاً كجير، وقيل: الفتح، والكسر للفرار من التقاء الساكنين. وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون، فلكونها مسرودة على نمط التعديد، فلا حظ لها من الإعراب. وقرأ هارون الأعور، ومحمد بن السميفع، والكلبي بضم النون على البناء كمنذ، وحيث، وقط، وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي: هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية، والتأنيث.
واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل: معناها: يا رجل، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال: هو افتتاح للسورة، ومن قال: معناه: يا رجل، لم يقف عليه.
وقال سعيد بن جبير، وغيره: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}، ومنه قول السعد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة *** على المودّة إلاّ آل ياسين
ومنه قوله: {سلام على إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] أي: على آل محمد، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين. قال الواحدي: قال ابن عباس، والمفسرون: يريد يا إنسان: يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر الورّاق: معناه: يا سيد البشر.
وقال مالك: هو: اسم من أسماء الله تعالى، روى ذلك عنه أشهب.
وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق: أن معناه: يا سيد.
وقال كعب: هو: قسم أقسم الله به، ورجح الزجاج أن معناه: يا محمد.
واختلفوا هل هو عربيّ أو غير عربيّ؟، فقال سعيد بن جبير، وعكرمة: حبشي.
وقال الكلبي: سرياني تكلمت به العرب، فصار من لغتهم.
وقال الشعبي: هو بلغة طيّ.
وقال الحسن: هو بلغة كلب.
وقد تقدم في طه، وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ها هنا {والقرءان الحكيم} بالجرّ على أنه مقسم به ابتداء. وقيل: هو معطوف على يس على تقدير كونه مجروراً بإضمار القسم. قال النقاش: لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلاّ لمحمد صلى الله عليه وسلم تعظيماً له وتمجيداً، والحكيم المحكم الذي لا يتناقض، ولا يتخالف، أو الحكيم قائله، وجواب القسم {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}، وهذا ردّ على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: {لَسْتَ مُرْسَلاً} [الرعد: 43] وقوله: {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبر آخر لإنّ: أي: إنك على صراط مستقيم، والصراط المستقيم: الطريق القيم الموصل إلى المطلوب.
قال الزجاج: على طريقة الأنبياء الذين تقدّموك، ويجوز: أن يكون في محل نصب على الحال {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر برفع {تنزيل} على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: هو تنزيل، ويجوز: أن يكون خبراً لقوله: يس إن جعل اسماً للسورة، وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية: أي: نزّل الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل: المعنى: إنك يا محمد تنزيل العزيز الرحيم، والأوّل أولى. وقيل: هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل، وقرأ أبو حيوة، والترمذي، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة {تنزيل} بالجرّ على النعت للقرآن، أو البدل منه.
واللام في {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} يجوز: أن تتعلق ب {تنزيل}، أو بفعل مضمر يدلّ عليه {من المرسلين}: أي: أرسلناك لتنذر، و{ما} في {مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} هي: النافية: أي: لم ينذر آباؤهم، ويجوز: أن تكون موصولة، أو موصوفة: أي: لتنذر قوماً الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذرهم عذاباً أنذره آباؤهم، ويجوز: أن تكون مصدرية: أي: إنذار آبائهم، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى: ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم، ويجوز: أن يراد، ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، وقوله: {فَهُمْ غافلون} متعلق بنفي الإندار على الوجه الأوّل: أي: لم ينذر آباؤهم، فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله: {لتنذر}: أي: {فهم غافلون} عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله، واللام في قوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} هي: الموطئة للقسم، أي: والله لقد حقّ القول على أكثرهم، ومعنى {حقّ}: ثبت، ووجب القول: أي: العذاب على أكثرهم: أي: أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار على الإطلاق، أو أكثر كفار العرب، وهم من مات على الكفر، وأصرّ عليه طول حياته، فيتفرّع قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} على ما قبله بهذا الاعتبار، أي: لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر، والموت عليه، وقيل: المراد بالقول المذكور هنا: هو قوله سبحانه: {فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} [ص: 84 85].
وجملة {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا} تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم {فَهِىَ} أي: الأغلال منتهية {إِلَى الأذقان}، فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات، ولا يتمكنون من عطفها، وهو معنى قوله: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء، والزجاج: المقمح: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه، ومعنى الإقماح: رفع الرأس، وغضّ البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح: إذا رفع رأسه، ولم يشرب الماء.
قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم، ورؤوسهم صعداء، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها.
وقال قتادة: معنى مقمحون: مغلولون، والأوّل أولى، ومنه قول الشاعر:
ونحن على جوانبها قعود *** نغضّ الطرف كالإبل القماح
قال الزجاج: قيل: للكانونين: شهرا قماح؛ لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدّة البرد، وأنشد قول أبي زيد الهذلي:
فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا *** وحب الزاد في شهري قماح
قال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض، ولم يشرب.
وقال أبو عبيدة أيضاً: هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال: فلان حمار: أي: لا يبصر الهدى، وكما قال الشاعر:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد ***
وقال الفراء: هذا ضرب مثل: أي: حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]. وبه قال الضحاك. وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى: {إِذِ الأغلال فِى أعناقهم} [غافر: 71] وقرأ ابن عباس {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً} قال الزجاج: أي: في أيديهم. قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم، وفي أياديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فلفظ {هي} كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وسرابيل تقيكم البرد، لأن ما وقى من الحرّ، وقى من البرد؛ لأن الغلّ إذا كان في العنق، فلا بدّ أن يكون في اليد، ولا سيما، وقد قال الله {فَهِىَ إِلَى الأذقان}، فقد علم أنه يراد به الأيدي، فهم مقمحون، أي: رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه.
وروي عن ابن عباس: أنه قرأ: {إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً}، وعن ابن مسعود: أنه قرأ: {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً} كما روي سابقاً من قراءة ابن عباس {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي: منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه، وخلفه بالأسداد، والسد بضم السين، وفتحها لغتان. ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر:
ومن الحوادث لا أبالك أنني *** ضربت عليّ الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة *** بين العذيب وبين أرض مراد
{فأغشيناهم} أي: غطينا أبصارهم {فَهُمُ} بسبب ذلك {لاَّ يُبْصِرُونَ} أي: لا يقدرون على إبصار شيء.
قال الفراء: فألبسنا أبصارهم غشوة: أي: عمى فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة: إن المعنى: لا يبصرون الهدى.
وقال السدّي: لا يبصرون محمداً حين ائتمروا على قتله.
وقال الضحاك: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً}: أي: الدنيا، {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي: الآخرة، {فأغشيناهم فهم لا يبصرون}: أي: عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا. وقيل: ما بين أيديهم: الآخرة، وما خلفهم: الدنيا، قرأ الجمهور بالغين المعجمة: أي: غطينا أبصارهم، فهو على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، ويحيى بن يعمر، وأبو رجاء، وعكرمة بالعين المهملة من العشا، وهو: ضعف البصر. ومنه {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} [الزخرف: 36] {وَسَوَآء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: إنذارك إياهم، وعدمه سواء. قال الزجاج: أي: من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب} أي: اتبع القرآن، وخشي الله في الدنيا، وجملة {لا يؤمنون} مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء، أو في محل نصب على الحال، أو بدل، و{بالغيب} في محل نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: بشر هذا الذي اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة عظيمة، وأجر كريم، أي: حسن، وهو: الجنة.
ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى} أي: نبعثهم بعد الموت.
وقال الحسن، والضحاك، أي: نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأوّل أولى. ثم توعدهم بكتب آثارهم، فقال: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي: أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة {وَءاثَارَهُمْ} أي: ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت. كمن سنّ سنّة حسنة، أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها: كمن سن سنّة سيئة. قال مجاهد، وابن زيد: ونظيره قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] وقوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]. وقيل: المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة، والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك. ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشرّ، ومن الخير: تعليم العلم، وتصنيفه، والوقف على القرب، وعمارة المساجد، والقناطر. ومن الشرّ: ابتداع المظالم، وإحداث ما يضرّ بالناس، ويقتدي به أهل الجور، ويعملون عليه من مكس، أو غيره، ولهذا قال سبحانه: {وَكُلَّ شئ أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: وكل شيء من أعمال العباد، وغيرها كائناً ما كان، في إمام مبين، أي: كتاب مقتدى به موضح لكل شيء. قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال.
قرأ الجمهور {ونكتب} على البناء للفاعل. وقرأ زرّ، ومسروق على البناء للمفعول. وقرأ الجمهور {كُلّ شَئ أحصيناه} بنصب {كل} على الاشتغال. وقرأ أبو السمأل بالرفع على الابتداء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، وابن عباس في قوله: {يس} قالا: يا محمد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {يس} قال: يا إنسان.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن، والضحاك، وعكرمة مثله.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد، فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت: {يس والقرءان الحكيم} إلى قوله: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد، وفي الباب: روايات في سبب نزول ذلك، هذه الرواية أحسنها، وأقربها إلى الصحة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الأغلال: ما بين الصدر إلى الذقن {فَهُم مُّقْمَحُونَ} كما تقمح الدابة باللجام.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} الآية قال: كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرونه.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه، فشقّ ذلك عليه، فأتاه جبريل بسورة يس، وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرؤها، ويذرّ التراب على رؤوسهم، فما رأوه حتى جاز، فجعل أحدهم يلمس رأسه، فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: ننتظر محمداً، فقال: لقد رأيته داخلاً المسجد، قال: قوموا، فقد سحركم.
وأخرج عبد الرّزّاق، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقيّ في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ}، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنه يكتب آثاركم» ثم قرأ عليهم الآية: فتركوا.
وأخرج الفريابي، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
وفي صحيح مسلم، وغيره من حديث جابر قال: إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم، ويتحوّلوا قريباً من المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم».


قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} قد تقدّم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة، وسورة النمل، والمعنى: اضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي: مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى الأوّل لما قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقال: {لِتُنذِرَ قَوْماً} [يس: 6] قال: قل لهم: ما أنا بدعا من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد، وخوّفوا بالقيامة، وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله، وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اضرب لنفسك، ولقومك مثلاً: أي: مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل، ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء، وأنت جئت إليهم واحداً، وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة. والمعنى: واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية: أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل: لا حاجة إلى الإضمار، بل المعنى: اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون {مثلاً} و{أصحاب القرية} مفعولين لاضرب، أو يكون أصحاب القرية بدلاً من مثلاً، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو: مثلاً، أو أصحاب القرية.
وقد قيل: إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ} [التحريم: 10]، ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45] أي: بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة: هي في الغرابة كالأمثال؛ فقوله سبحانه هنا: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً} يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي: هذه القرية هي: أنطاكية في قول جميع المفسرين.
وقوله: {إِذْ جَآءَهَا المرسلون} بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون: هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدّعاء إلى الله، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين}، لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه، ويجوز: أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، فكذبوهما في الرسالة، وقيل: ضربوهما، وسجنوهما. قيل: واسم الاثنين يوحنا، وشمعون. وقيل: أسماء الثلاثة: صادق، ومصدوق، وشلوم قاله ابن جرير، وغيره. وقيل: سمعان، ويحيى، وبولس {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي. قال الجوهري: {فعزّزنا} يخفف، ويشدّد: أي: قوّينا، وشدّدنا، فالقراءتان على هذا بمعنى. وقيل: التخفيف بمعنى: غلبنا، وقهرنا، ومنه: {وَعَزَّنِى فِى الخطاب} [ص: 23] والتشديد بمعنى: قوّينا وكثرنا. قيل: وهذا الثالث هو شمعون، وقيل: غيره {فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} أي: قال الثلاثة جميعاً، وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث، لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد، وهو: الدعاء إلى الله عزّ وجلّ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرّسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة {قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر: كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية، فقيل: قالوا: ما أنتم إلاّ بشر مثلنا: أي: مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. ثم صرّحوا بجحود إنزال الكتب السماوية، فقالوا: {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَئ} مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل، وأتباعهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} أي: ما أنتم إلاّ تكذبون في دعوى ما تدّعون من ذلك، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: ربنا يعلم، وبإنّ، وباللام.
{وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ما يجب علينا من جهة ربنا إلاّ تبليغ رسالته على وجه الظهور، والوضوح، وليس علينا غير ذلك، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها، وكذلك جملة {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}، فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر: أي: إنا تشاءمنا بكم، لم تجدوا جواباً تجيبون به على الرسل إلاّ هذا الجواب المبنيّ على الجهل المنبئ عن الغباوة العظيمة، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها. قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين. قيل: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، ثم رجعوا إلى التجبر، والتكبر لما ضاقت صدورهم، وأعيتهم العلل، فقالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي: لئن لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة؛ لنرجمنّكم بالحجارة {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد فظيع. قال الفرّاء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل.
وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. قيل: ومعنى العذاب الأليم: القتل، وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص، وهذا هو الظاهر.
ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم فقالوا: {طائركم مَّعَكُمْ} أي: شؤمكم معكم من جهة أنفسكم، لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا. قال الفراء: {طائركم معكم}: أي: رزقكم وعملكم، وبه قال قتادة. قرأ الجمهور {طائركم} اسم فاعل: أي: ما طار لكم من الخير، والشرّ، وقرأ الحسن {أطيركم} أي: تطيركم {أَءن ذُكّرْتُم}. قرأ الجمهور من السبعة، وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين، وعدمه.
وقرأ أبو جعفر، وزرّ بن حبيش، وابن السميفع، وطلحة بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الأعمش، وعيسى بن عمر، والحسن {أين} بفتح الهمزة، وسكون الياء على صيغة الظرف.
واختلف سيبويه، ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط، وعلى القولين، فالجواب هنا محذوف: أي: أئن ذكرتم، فطائركم معكم لدلالة ما تقدّم عليه. وقرأ الماجشون {أن ذكرتم} بهمزة مفتوحة: أي: لأن ذكرتم. ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام، والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم، فقالوا: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية. قال قتادة: مسرفون في تطيركم.
وقال يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم، وقال ابن بحر: السرف هنا: الفساد، والإسراف في الأصل: مجاوزة الحاء في مخالفة الحقّ.
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} هو: حبيب بن موسى النجار، وكان نجاراً، وقيل: إسكافاً. وقيل: قصاراً.
وقال مجاهد، ومقاتل: هو: حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام.
وقال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، وجملة {قَالَ يَاقَوْم اتبعوا المرسلين} مستأنفة جواب سؤال مقدّر: كأنه قيل: فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال: يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم، فإنهم جاءوا بحق. ثم أكد ذلك، وكرّره، فقال: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً} أي: لا يسألونكم أجراً على ما جاؤوكم به من الهدى {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} يعني: الرسل. ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه، فقال: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى} أي: أيّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؟ ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه، فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد.
ثم عاد إلى المساق الأوّل لقصد التأكيد، ومزيد الإيضاح، فقال: {أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً}، فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه. وهم المرادون به: أي: أتخذ من دون الله آلهة، وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم، وبياناً لضلال عقولهم، وقصور إدراكهم، فقال: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً} أي: شيئاً من النفع كائناً ما كان {وَلاَ يُنقِذُونَ} من ذلك الضرّ الذي أرادني الرحمن به. وهذه الجملة صفة لآلهة، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع، والدفع، وقوله: {لاَّ تُغْنِ} جواب الشرط، وقرأ طلحة بن مصرّف {إن يردني} بفتح الياء، قال: {إِنّى إِذاً لَّفِى ضلال مُّبِينٍ} أي: إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران.
ثم صرّح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شكّ، فقال: {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أرادوا القوم قتله، فأقبل هو على المرسلين، فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل، فاسمعون: أي: اسمعوا إيماني، واشهدوا لي به. وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين، وتشدّداً في الحقّ، فلما قال هذا القول، وصرّح بالإيمان، وثبوا عليه، فقتلوه، وقيل: وطئوه بأرجلهم، وقيل: حرقوه، وقيل: حفروا له حفيرة، وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل: نشروه بالمنشار.
{قِيلَ ادخل الجنة} أي: قيل له ذلك تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنّة الله في شهداء عباده. وعلى قول من قال: إنه رفع إلى السماء، ولم يقتل يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل، وقيل له: ادخل الجنة، فلما دخلها، وشاهدها {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أي: فماذا قال بعد أن قيل له: ادخل الجنة، فدخلها. فقيل: قال: {يا ليت قومي} إلخ، و{ما} في {بِمَا غَفَرَ لِى} هي: المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل: هي الموصولة: أي: بالذي غفر لي ربي، والعائد محذوف: أي: غفره لي ربي، واستضعف هذا؛ لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد: إلاّ التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له.
وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى: التعجب، كأنه قال: بأيّ شيء غفر لي ربي. قال الكسائي: لو صح هذا لقال (بم) من غير ألف. ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها، وإن كان مكسوراً بالنسبة إلى حذفها، ومنه قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم *** كخنزير تمرغ في دمان
وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله؛ ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته إرغاماً لهم. وقيل: إنه تمنى أن يعلموا بذلك؛ ليؤمنوا مثل إيمانه، فيصيروا إلى مثل حاله.
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} قال: هي: أنطاكية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران، وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى، والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، والذي عزّز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {طائركم مَّعَكُمْ} قال: شؤمكم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ} قال: هو: حبيب النجار.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر، قال: اسم صاحب يس: حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: لما قال صاحب يس {ياقوم اتبعوا المرسلين} خنقوه؛ ليموت، فالتفت إلى الأنبياء، فقال: {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} أي: فاشهدوا لي.


لما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له، وعجل لهم النقمة، وأهلكهم بالصيحة، ومعنى {وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} أي: على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السماوات على الاختلاف السابق {مِن جُندٍ مّنَ السماء} لإهلاكهم، وللانتقام منهم: أي: لم تحتج إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته، وحرب أعدائه {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أي: وما صحّ في قضائنا، وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا، وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند.
وقال قتادة، ومجاهد، والحسن: أي: ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء، ولا نبيّ بعد قتله.
وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم، وتصغير أمرهم: أي: ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} أي: إن كانت العقوبة، أو النقمة، أو الأخذة إلاّ صيحة واحدة صاح بها جبريل، فأهلكهم. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حسّ كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله: {فَإِذَا هُمْ خامدون} أي: قوم خامدون ميتون، شبههم بالنار إذا طفئت؛ لأن الحياة كالنار الساطعة، والموت كخمودها. قرأ الجمهور {صيحة} بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدّمنا. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ومعاذ القارئ برفعها على أن كان تامة: أي: وقع، وحدث، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم، وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله: {إِن كَانَتْ} قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: {إن كان إلاّ صيحة}، وقدّر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلاّ صيحة واحدة، وقدّرها غيره: ما وقعت عليهم إلاّ صيحة واحدة. وقرأ عبد الله بن مسعود {إن كانت إلاّ زقية واحدة}، والزقية: الصيحة، قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف، وأيضاً. فإن اللغة المعروفة: زقا يزقو إذا صاح. ومنه المثل: أثقل من الزواقي، فكان يجب على هذا أن تكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال: الزقو والزقي مصدر، وقد زقا الصدا يزقو. زقا: أي صاح: وكل صائح زاق، والزقية: الصيحة.
{ياحسرة عَلَى العباد} قرأ الجمهور بنصب {حسرة}، على أنها منادى منكر، كأنه نادى الحسرة، وقال لها: هذا أوانك فاحضري. وقيل: إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف، والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة.
وقرأ قتادة، وأبيّ في رواية عنه بضم حسرة على النداء. قال الفراء: في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب، وإنها لو رفعت النكرة لكان صواباً، واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب: يا مهتم بأمرنا لا تهتم، وأنشد:
يا دار غيّرها البلى تغييرا ***
قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء، أو أكثره. قال: وتقدير ما ذكره: يأيها المهتم لا تهتم بأمرنا، وتقدير البيت: يا أيتها الدار. وحقيقة الحسرة: أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً. قال ابن جرير: المعنى: يا حسرة من العباد على أنفسهم، وتندّما وتلهفا في استهزائهم برسل الله، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس، وعليّ بن الحسين {يا حسرة العباد} على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبيّ.
وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل: هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة. وقيل: إن القائل: يا حسرة على العباد هم: الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم، وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية، ومجاهد، وقيل: إن التحسر عليهم هو من الله عزّ وجلّ بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه. وقرأ ابن هرمز، ومسلم بن جندب، وعكرمة، وأبو الزناد {يا حسره} بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف. وقرئ: {يا حسرتا} كما قرئ بذلك في سورة الزمر، وجملة {مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل، والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم. ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية، فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} أي: ألم يعلموا كثرة من أهلكنا قبلهم من القرون التي أهلكناها من الأمم الخالية، وجملة {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل من كم أهلكنا على المعنى. قال سيبويه: أنّ بدل من كم، وهي: الخبرية، فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام، والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون.
وقال الفراء: {كم} في موضع نصب من وجهين: أحدهما: ب {يروا}، واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود: {ألم يروا من أهلكنا}، والوجه الآخر: أن تكون {كم} في موضع نصب ب {أهلكنا}. قال النحاس: القول الأوّل محال، لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبراً، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا، فجعل أنهم بدلاً من كم، وقد ردّ ذلك المبرد أشدّ ردّ {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي: محضرون لدينا يوم القيامة للجزاء.
قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة {لما} بتشديدها، وقرأ الباقون بتخفيفها. قال الفراء: من شدّد جعل لما بمعنى: إلاّ، وإن بمعنى: ما، أي: ما كلّ إلاّ جميع لدينا محضرون، ومعنى {جميع} مجموعون، فهو فعيل بمعنى: مفعول، ولدينا ظرف له، وأما على قراءة التخفيف، فإن هي المخففة من الثقيلة، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وتنوين {كل} عوض عن المضاف إليه، وما بعده الخبر، واللام هي: الفارقة بين المخففة والنافية. قال أبو عبيدة: وما على هذه القراءة زائدة، والتقدير عنده: وإن كلّ لجميع. وقيل: معنى {محضرون}: معذبون، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب.
ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد، والحشر مع تعداد النعم، وتذكيرها، فقال: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة}، فآية خبر مقدّم، وتنكيرها للتفخيم، ولهم صفتها، أو متعلقة بآية؛ لأنها بمعنى: علامة، والأرض مبتدأ، ويجوز: أن تكون {آية} مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة، وما بعدها الخبر. قرأ أهل المدينة {الميتة} بالتشديد، وخففها الباقون، وجملة {أحييناها} مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية، وقيل: هي صفة للأرض، فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه، وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات: وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها، ويتغذون بها، وهو معنى قوله: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، وهو ما يقتاتونه من الحبوب، وتقديم {منه} للدلالة على أن الحبّ معظم ما يؤكل، وأكثر ما يقوم به المعاش. {وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} أي: جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل، والعنب، وخصصهما بالذكر؛ لأنهما أعلى الثمار، وأنفعها للعباد {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} أي: فجرنا في الأرض بعضاً من العيون، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، أو المفعول العيون، ومن مزيدة على رأي من جوّز زيادتها في الإثبات، وهو الأخفش، ومن وافقه، والمراد بالعيون عيون الماء. قرأ الجمهور {فجرنا} بالتشديد، وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف، والفجر والتفجير: كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى، واللام في {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} متعلق بجعلنا، والضمير في {من ثمره} يعود إلى المذكور من الجنات، والنخيل، وقيل: هو راجع إلى ماء العيون؛ لأن الثمر منه، قاله الجرجاني. قرأ الجمهور {ثمره} بفتح الثاء، والميم، وقرأ حمزة، والكسائي بضمهما، وقرأ الأعمش بضم الثاء، وإسكان الميم، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام، وقوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} معطوف على {ثمره}: أي: ليأكلوا من ثمره، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير، والدبس، ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن {ما} موصولة، وقيل: هي نافية، والمعنى: لم يعملوه، بل العامل له هو الله، أي: وجدوها معمولة، ولا صنع لهم فيها، وهو قول الضحاك، ومقاتل. قرأ الجمهور {عملته} وقرأ الكوفيون {عملت} بحذف الضمير، والاستفهام في قوله: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} للتقريع، والتوبيخ لهم لعدم شكرهم للنعم.
وجملة {سبحان الذى خَلَق الأزواج كُلَّهَا} مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة، والتعجب من إخلالهم بذلك.
وقد تقدّم الكلام مستوفى في معنى: سبحان، وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به، والأزواج: الأنواع، والأصناف، لأن كل صنف مختلف الألوان، والطعوم، والأشكال، و{مِمَّا تُنبِتُ الأرض} بيان للأزواج، والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة، وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي: خلق الأزواج من أنفسهم، وهم: الذكور، والإناث {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} من أصناف خلقه في البرّ، والبحر، والسماء، والأرض {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} الكلام في هذا كما قدّمنا في قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها}، والمعنى: أن ذلك علامة دالة على توحيد الله، وقدرته، ووجوب إلهيته، والسلخ: الكشط، والنزع، يقال: سلخه الله من بدنه، ثم يستعمل بمعنى: الإخراج، فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء، وهو استعارة بليغة {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة، يقال: أظلمنا: أي: دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا، وأمسينا، وقيل: {منه} بمعنى: عنه، والمعنى: نسلخ عنه ضياء النهار. قال الفراء: يرمى بالنهار على الليل، فيأتي بالظلمة، وذلك أن الأصل هي: الظلمة، والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كشط، وأزيل، فتظهر الظلمة.
{والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} يحتمل: أن تكون الواو للعطف على الليل، والتقدير: وآية لهم الشمس، ويجوز: أن تكون الواو ابتدائية، والشمس مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفاً مشتملاً على ذكر آية مستقلة. قيل: وفي الكلام حذف، والتقدير: تجري لمجرى مستقرّ لها، فتكون اللام للعلة: أي: لأجل مستقرّ لها، وقيل: اللام بمعنى: إلى وقد قرئ بذلك. قيل: والمراد بالمستقرّ: يوم القيامة، فعنده تستقرّ، ولا يبقى لها حركة، وقيل: مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه، ولا تجاوزه، وقيل: نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية هبوطها في الشتاء، وقيل: مستقرها تحت العرش؛ لأنها تذهب إلى هنالك، فتسجد، فتستأذن في الرجوع، فيؤذن لها، وهذا هو الرّاجح.
وقال الحسن: إن للشمس في السنة ثلثمائة مطلعاً تنزل في كل يوم مطلعاً، ثم لا تنزل إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل، وهو: مستقرّها، وقيل: غير ذلك. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وزين العابدين، وابنه الباقر، والصادق بن الباقر {لا مستقرّ لها} بلا التي لنفي الجنس، وبناء مستقرّ على الفتح. وقرأ ابن أبي عبلة: {لا مستقرّ} بلا التي بمعنى: ليس، ومستقرّ اسمها، ولها خبرها، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى جري الشمس: أي: ذلك الجري {تَقْدِيرُ العزيز} أي: الغالب القاهر {العليم}: أي: المحيط علمه بكل شيء، ويحتمل: أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقرّ: أي: ذلك المستقرّ: تقدير الله.
{والقمر قدرناه مَنَازِلَ}. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو برفع القمر على الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال، وانتصاب {منازل} على أنه مفعول ثانٍ، لأن {قدرنا} بمعنى: صيرنا، ويجوز: أن يكون منتصباً على الحال: أي: قدّرنا سيره حال كونه ذا منازل، ويجوز: أن يكون منتصباً على الظرفية: أي: في منازل. واختار أبو عبيد النصب في القمر؛ لأن قبله فعلاً، وهو {نسلخ}، وبعده فعلاً، وهو {قدّرنا}. قال النحاس: أهل العربية جميعاً فيما علمت على خلاف ما قال. منهم الفراء قال: الرفع أعجب إليّ، قال: وإنما كان الرفع عندهم أولى؛ لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه: وآية لهم القمر. قال أبو حاتم: الرفع أولى، لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير، فرفعته بالابتداء، والمنازل: هي: الثمانية والعشرون التي ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها، وهي معروفة، وسيأتي ذكرها، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أوّلها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يستتر ليلتين، ثم يطلع هلالاً، فيعود في قطع تلك المنازل من الفلك {حتى عَادَ كالعرجون القديم} قال الزجاج: العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف: أي: سار في منازله، فإذا كان في آخرها دقّ، واستقوس، وصغر حتى صار كالعرجون القديم، وعلى هذا فالنون زائدة. قال قتادة: وهو: العذق اليابس المنحني من النخلة. قال ثعلب: العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت، والقديم: البالي.
وقال الخليل: العرجون أصل العذق، وهو أصفر عريض، يشبه به الهلال إذا انحنى، وكذا قال الجوهري: إنه أصل العذق الذي يعوج، ويقطع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابساً، وعَرَجْتُه: ضربته بالعرجون، وعلى هذا فالنون أصلية. قرأ الجمهور {العرجون} بضم العين، والجيم: وقرأ سليمان التيمي بكسر العين، وفتح الجيم، وهما لغتان، والقديم: العتيق.
{لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} الشمس مرفوعة بالابتداء، لأنه لا يجوز أن تعمل لا في المعرفة: أي: لا يصح، ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر في سرعة السير، وتنزل في المنزل الذي فيه القمر؛ لأن لكل واحد منهما سلطاناً على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة، فتطلع الشمس من مغربها.
وقال الضحاك: معناه: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء.
وقال مجاهد: أي: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر.
وقال الحسن: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، وكذا قال يحيى بن سلام.
وقيل: معناه: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه. وقيل: القمر في سماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة. ذكره النحاس، والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه، وأبينه: أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير. وأما قوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9]، فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدّم بيانه في الأنعام، ويأتي في سورة القيامة أيضاً، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا، وقيام الساعة {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أي يسبقه، فيفوته، ولكن يعاقبه، ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه، وقيل: المراد من الليل، والنهار: آيتاهما، وهما الشمس والقمر، فيكون عكس قوله: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} أي: ولا القمر سابق الشمس، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} التنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه: أي: وكل واحد منهما، والفلك: هو الجسم المستدير، أو السطح المستدير، أو الدائرة، والخلاف في كون السماء مبسوطة، أو مستديرة معروف، والسبح: السير بانبساط، وسهولة، والجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} باعتبار اختلاف مطالعهما، فكأنهما متعدّدان بتعدّدها، أو المراد: الشمس، والقمر، والكواكب.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} الآية يقول: ما كابدناهم بالجموع: أي، الأمر أيسر علينا من ذلك.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ياحسرة عَلَى العباد} يقول: يا ويلاً للعباد.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {يا حسرة على العباد} قال: الندامة على العباد الذين {مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يقول: الندامة عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} قال: وجدوه معمولاً لم تعمله أيديهم: يعني: الفرات، ودجلة، ونهر بلخ، وأشباهها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} لهذا.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} قال: «مستقرّها تحت العرش» وفي لفظ للبخاري، وغيره من حديثه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس، فقال: «يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس؟» قلت: الله، ورسوله أعلم، قال: «إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا}» وفي لفظ من حديثه أيضاً عند أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرهم قال: «يا أبا ذرّ، أتدري أين تذهب هذه؟ قلت: الله، ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع، فيأذن لها، وكأنها قد قيل لها: اطلعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها».
ثم قرأ: {ذلك مستقرّ لها} وذلك قراءة عبد الله.
وأخرج الترمذي، والنسائي، وغيرهما من قول ابن عمر نحوه.
وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} الآية قال: هي: ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في كلّ شهر: أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية، أولها الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والدبرة، والصرفة، والعوّاء، والسماك. وهو آخر الشامية، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدّم الدلو، ومؤخر الدلو، والحوت، وهو آخر اليمانية، فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلاً {عَادَ كالعرجون القديم} كما كان في أوّل الشهر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {كالعرجون القديم}: يعني: أصل العذق العتيق.

1 | 2